وقفة تأمّل مع آيات الصوم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أخذتُ نفسي في العشر الأواخر بقراءة كتاب "الإسلام عقيدة وشريعة" للشيخ محمود شلتوت رحمه الله، وقد وقفت فيه اليوم على كلام نفيس جداً عن "الصوم"، استخرتُ الله في نقل بعضه إليكم:
جرى على ألسنة الناس أن الصوم هو الإمساك عن الطعام والشراب والملابسة الجنسية، وبهذا يظنّ كثير من المسلمين أن الإنسان متى أمسك عن هذه الأمور الثلاثة طول يومه فقد صام وخرج عن عهدة التكليف وأدّى ما فرضه الله عليه!
والواقع أن هذا بيان للصوم بالنسبة إلى مظهره وإلى الجانب السلبيّ منه فقط. وكلا الأمرين: المظهر والجانب السلبيّ لا يكونان حقيقة الصوم الذي كلّف الله به عباده وفرضه عليهم، فإن الله سبحانه بدأ آية الصوم بقوله (يا أيها الذين آمنوا) وختمها بقوله (لعلكم تتقون) وفيما بين البدء والختام أمر بالصوم (كُتب عليكم الصيام).
وليس من ريب في أن النداء بوصف الإيمان أولا، وهو أساس الخير ومنبع الفضائل، وفي ذكر التقوى آخرا، وهي روح الإيمان وسر الفلاح، إرشادٌ قويٌّ ودلالةٌ واضحةٌ على أن الصوم المطلوب ليس هو مجرّد الإمساك عن الطعام والشراب، وإنما هو الإمساك عن كلّ ما ينافي الإيمان ولا يتّفقُ وفضيلة التقوى والمراقبة.
وإذن فالذي يتّجه إلى غير الله بالقصد والرجاء لا صوم له، والذي يفكّر في الخطايا ويشتغل بتدبير الفتن والمكائد ويحارب الله ورسوله في جماعة المؤمنين لا صوم له.
والذي يطوي قلبه على الحقد والحسد والبغض لجمع كلمة الموحّدين والعمل على تفريقهم وإضعاف سلطانهم لا صوم له.
والذي يحابي الظالمين ويجامل السفهاء ويعاون المفسدين لا صوم له.
والذي يستغل مصالح المسلمين العامة ويستعين بمال الله على مصالحه الشخصية ورغباته وشهواته لا صوم له.
وكذلك من يمدّ يده أو لسانه أو جارحة من جوارحه بالإيذاء لعباد الله أو إلى انتهاك حرمات الله لا صوم له.
فالصائم ملاك في صورة إنسان، لا يكذب ولا يرتاب ولا يشي ولا يدبّر في اغتيال أو شوء ولا يخادع ولا يأكل أموال الناس بالباطل.
حكمة الصوم الحقيقية هي غرس خلق المراقبة وخلق الصبر في نفوس المؤمنين، وبهما تصدق النية وتقوى العزيمة، فيثبت المؤمنون لحوادث الدهر وما يعترضهم من عقبات، وفي الحياة نوازع الشهوة والهوى وفي الحياة دوافع الغضب والانتقام، وفي الحياة التقلّب بين النعماء والضراء، وفي الحياة النزوح عن الأوطان ومفارقة الأهل والإخوان، وفي الحياة الجهاد في سبيل الله.
في الحياة كثير من الخطوب والمشاقّ التي تعترض الإنسان، فما أحوجه أن يتذرّع بخلق الصبر ليثبت ويحتمل! وما أحوجه إلى أن يتسلّح بسلاح المراقبة والاستعانة بالله والرجوع إليه والاعتماد عليه!
الصوم مددٌ قويٌّ لجند الخير في الإنسان، به يزكو القلب وتصفو النفس وتتهذب الروح ويصير الإنسان منبعاً فيّاضاً بالخير على نفسه وعلى غيره، ويعيش عيشة راضية، سُداها المحبة والوئام، ولُحمتها التعاون والسلام، وبهذا يقترب من الملأ الأعلى، ويتلقى التكاليف الإلهية بقوّة لا تعرف الضعف، وثبات لا يعرف الملل، وإخلاص لا يعرف الرياء، وإيمان لا يعرف الشك، فتطيب الحياة ويسعد الناس.
جاء قوله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى و الفرقان) مشيراً إلى الحكمة في اختيار هذا الشهر لهذا الصوم المفروض، وهي أنه الوقت الذي ظهرت فيه النعمة الكبرى التي يجب أن تُشكَرَ – وهي نعمة البدء بإنزال القرآن على النبيّ صلى الله عليه وسلّم – ولا ريب أن القرآن من أقوى ما يطهّر القلب ويسمو بالأرواح، وناسب ذلك أن يكون الشكر من جنس النعمة في المعنى والأثر، عبادة تطهّر القلوب وتسمو بالأرواح، وهي الصوم.
دمتم جميعاً في كلّ خير.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أخذتُ نفسي في العشر الأواخر بقراءة كتاب "الإسلام عقيدة وشريعة" للشيخ محمود شلتوت رحمه الله، وقد وقفت فيه اليوم على كلام نفيس جداً عن "الصوم"، استخرتُ الله في نقل بعضه إليكم:
جرى على ألسنة الناس أن الصوم هو الإمساك عن الطعام والشراب والملابسة الجنسية، وبهذا يظنّ كثير من المسلمين أن الإنسان متى أمسك عن هذه الأمور الثلاثة طول يومه فقد صام وخرج عن عهدة التكليف وأدّى ما فرضه الله عليه!
والواقع أن هذا بيان للصوم بالنسبة إلى مظهره وإلى الجانب السلبيّ منه فقط. وكلا الأمرين: المظهر والجانب السلبيّ لا يكونان حقيقة الصوم الذي كلّف الله به عباده وفرضه عليهم، فإن الله سبحانه بدأ آية الصوم بقوله (يا أيها الذين آمنوا) وختمها بقوله (لعلكم تتقون) وفيما بين البدء والختام أمر بالصوم (كُتب عليكم الصيام).
وليس من ريب في أن النداء بوصف الإيمان أولا، وهو أساس الخير ومنبع الفضائل، وفي ذكر التقوى آخرا، وهي روح الإيمان وسر الفلاح، إرشادٌ قويٌّ ودلالةٌ واضحةٌ على أن الصوم المطلوب ليس هو مجرّد الإمساك عن الطعام والشراب، وإنما هو الإمساك عن كلّ ما ينافي الإيمان ولا يتّفقُ وفضيلة التقوى والمراقبة.
وإذن فالذي يتّجه إلى غير الله بالقصد والرجاء لا صوم له، والذي يفكّر في الخطايا ويشتغل بتدبير الفتن والمكائد ويحارب الله ورسوله في جماعة المؤمنين لا صوم له.
والذي يطوي قلبه على الحقد والحسد والبغض لجمع كلمة الموحّدين والعمل على تفريقهم وإضعاف سلطانهم لا صوم له.
والذي يحابي الظالمين ويجامل السفهاء ويعاون المفسدين لا صوم له.
والذي يستغل مصالح المسلمين العامة ويستعين بمال الله على مصالحه الشخصية ورغباته وشهواته لا صوم له.
وكذلك من يمدّ يده أو لسانه أو جارحة من جوارحه بالإيذاء لعباد الله أو إلى انتهاك حرمات الله لا صوم له.
فالصائم ملاك في صورة إنسان، لا يكذب ولا يرتاب ولا يشي ولا يدبّر في اغتيال أو شوء ولا يخادع ولا يأكل أموال الناس بالباطل.
حكمة الصوم الحقيقية هي غرس خلق المراقبة وخلق الصبر في نفوس المؤمنين، وبهما تصدق النية وتقوى العزيمة، فيثبت المؤمنون لحوادث الدهر وما يعترضهم من عقبات، وفي الحياة نوازع الشهوة والهوى وفي الحياة دوافع الغضب والانتقام، وفي الحياة التقلّب بين النعماء والضراء، وفي الحياة النزوح عن الأوطان ومفارقة الأهل والإخوان، وفي الحياة الجهاد في سبيل الله.
في الحياة كثير من الخطوب والمشاقّ التي تعترض الإنسان، فما أحوجه أن يتذرّع بخلق الصبر ليثبت ويحتمل! وما أحوجه إلى أن يتسلّح بسلاح المراقبة والاستعانة بالله والرجوع إليه والاعتماد عليه!
الصوم مددٌ قويٌّ لجند الخير في الإنسان، به يزكو القلب وتصفو النفس وتتهذب الروح ويصير الإنسان منبعاً فيّاضاً بالخير على نفسه وعلى غيره، ويعيش عيشة راضية، سُداها المحبة والوئام، ولُحمتها التعاون والسلام، وبهذا يقترب من الملأ الأعلى، ويتلقى التكاليف الإلهية بقوّة لا تعرف الضعف، وثبات لا يعرف الملل، وإخلاص لا يعرف الرياء، وإيمان لا يعرف الشك، فتطيب الحياة ويسعد الناس.
جاء قوله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى و الفرقان) مشيراً إلى الحكمة في اختيار هذا الشهر لهذا الصوم المفروض، وهي أنه الوقت الذي ظهرت فيه النعمة الكبرى التي يجب أن تُشكَرَ – وهي نعمة البدء بإنزال القرآن على النبيّ صلى الله عليه وسلّم – ولا ريب أن القرآن من أقوى ما يطهّر القلب ويسمو بالأرواح، وناسب ذلك أن يكون الشكر من جنس النعمة في المعنى والأثر، عبادة تطهّر القلوب وتسمو بالأرواح، وهي الصوم.
دمتم جميعاً في كلّ خير.
